الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب بيع الجمار وأكله) بضم الجيم وتشديد الميم هو قلب النخلة، وهو معروف، ذكر فيه حديث ابن عمر " من الشجرة شجرة كالرجل المؤمن " وقد تقدمت مباحثه في كتاب العلم، وليس فيه ذكر البيع لكن الأكل منه يقتضى جواز بيعه قاله ابن المنير، ويحتمل أن يكون أشار إلى أنه لم يجد حديثا على شرطه يدل بمطابقته على بيع الجمار. وقال ابن بطال: بيع الجمار وأكله من المباحات بلا خلاف، وكل ما انتفع به للأكل فبيعه جائز، قلت: فائدة الترجمة رفع توهم المنع من ذلك لأنه قد يظن إفساد أو إضاعة وليس كذلك، وفي الحديث أكل النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة القوم فيرد بذلك على من كره إظهار الأكل واستحب إخفاءه قياسا على إخفاء مخرجه. *3* وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحًا وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا فَقَالَ بِكَمْ قَالَ بِدَانَقَيْنِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ الْحِمَارَ الْحِمَارَ فَرَكِبَهُ وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ الشرح: قوله: (باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهور) قال ابن المنير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ. ولو أن رجلا وكل رجلا في بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونا أو مكيلا بغير الكيل أو الوزن المعتاد، وذكر القاضي الحسين من الشافعية أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه، فمنها الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كصغر ضبة الفضة وكبرها وغالب الكثافة في اللحية ونادرها وقرب منزله وبعده وكثرة فعل أو كلام وقلته في الصلاة، ومقابلا بعوض في البيع وعينا وثمن مثل ومهر مثل وكفء نكاح ومؤنة ونفقة وكسوة وسكنى وما يليق بحال الشخص من ذلك، ومنها الرجوع إليه في المقادير كالحيض والطهر وأكثر مدة الحمل وسن اليأس، ومنها الرجوع إليه في فعل غير منضبط يترتب عليه الأحكام كإحياء الموات والأذن في الضيافة ودخول بيت قريب وتبسط مع صديق وما يعد قبضا وإيداعا وهديه وغصبا وحفظ وديعة وانتفاعا بعارية، ومنها الرجوع إليه في أمر مخصص كألفاظ الأيمان وفي الوقف والوصية والتفويض ومقادير المكاييل والموازين والنقود وغير ذلك. قوله: (وقال شريح للغزالين) بالمعجمة وتشديد الزاي. قوله: (سنتكم بينكم) أي جائزة، وهذا على أن يقرأ سنتكم بالرفع، ويحتمل أن يقرأ بالنصب على حذف فعل أي الزموا. وهذا وصله سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين أن ناسا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال: سنتكم بينكم. (تنبيه) : وقع في بعض نسخ الصحيح " سنتكم بينكم ربحا " وقوله " ربحا " لفظة زائدة لا معنى لها هنا وإنما هي في آخر الأثر الذي بعده. قوله: (وقال عبد الوهاب) هو ابن عبد المجيد (عن أيوب عن محمد) هو ابن سيرين، وهذا وصله أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهاب هذا. قوله: (لا بأس العشرة بأحد عشر) أي لا بأس أن يبيع ما اشتراه بمائة دينار مثلا كل عشرة منه بأحد عشر فيكون رأس المال عشرة والربح دينارا، قال ابن بطال: أصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم من غير أن يعلم مقدار الصبرة فأجازه قوم ومنعه آخرون. قلت: وفي كون هذا الفرع هو المراد من أثر ابن سيرين نظر لا يخفى، وأما قوله ويأخذ للنفقة ربحا فاختلفوا فيه فقال مالك: لا يأخذ إلا فيما له تأثير في السلعة كالصبغ والخياطة، وأما أجرة السمسار والطي والشد فلا، قال: فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له جاز إذا رضي بذلك. وقال الجمهور: للبائع أن يحسب في المرابحة جمع ما صرفه ويقول: قام علي بكذا. ووجه دخول هذا الأثر في الترجمة الإشارة إلى أنه إذا كان في عرف البلد أن المشتري بعشرة دراهم يباع بأحد عشر فباعه المشتري على ذلك العرف لم يكن به بأس. قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند) أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقد ذكر قصتها موصولة في الباب. قوله: (واكترى الحسن) أي البصري (من عبد الله بن مرداس حمارا الخ) وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس فذكر مثله، وقوله "الحمار الحمار " بالنصب فيهما بفعل مضمر أي أحضر أو اطلب، ويجوز الرفع أي المطلوب، والدانق بالمهملة ونون خفيفة مكسورة بعدها قاف: وزن سدس درهم، ووجه دخوله في الترجمة ظاهر من جهة أنه لم يشارطه اعتمادا على الأجرة المتقدمة، وزاده بعد ذلك على الأجرة المذكورة على طريق الفضل. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ الشرح: حديث أنس في قصة أبي طيبة وقد تقدم ذكره في أوائل البيوع وساقه فيه بهذا الإسناد، ووجه دخوله في الترجمة كونه صلى الله عليه وسلم لم يشارطه على أجرته اعتمادا على العرف في مثله. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا قَالَ خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ الشرح: حديث عائشة في قصة هند وسيأتي الكلام عليه في كتاب النفقات، والمراد منها قوله " خذي من ماله ما يكفيك بالمعروف " فأحالها على العرف فيما ليس فيه تحديد شرعي. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ فَرْقَدٍ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ الشرح: حديث عائشة في قوله تعالى وقال في التفسير: أخرجه البخاري عن إسحاق بن منصور. وهشام هو ابن عروة وعثمان بن فرقد بفاء وقاف وزن جعفر هذا هو العطار البصري فيه مقال، لكن لم يخرج له البخاري موصولا سوى هذا الحديث، وقد قرنه بابن نمير، وذكر له آخر تعليقا في المغازي، والمراد منه في الترجمة حوالة والى اليتيم في أكله من ماله على العرف. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الشريك من شريكه) قال ابن بطال: هو جائز في كل شيء مشمع، وهو كبيعه من الأجنبي، فإن باعه من الأجنبي فللشريك الشفعة؛ وإن باعه من الشريك ارتفعت الشفعة. وذكر فيه حديث جابر في الشفعة وسيأتي الكلام عليه في بابه: وحاصل كلام ابن بطال مناسبة الحديث للترجمة. وقال غيره معنى الترجمة حكم بيع الشريك من شريكه، والمراد منه حض الشريك أن لا يبيع ما فيه الشفعة إلا من شريكه لأنه إن باعه لغيره كان للشريك أخذه بالشفعة قهرا، وقيل وجه المناسبة أن الدار إذا كانت بين ثلاثة فباع أحدهم للآخر كان للثالث أن يأخذ بالشفعة ولو كان المشتري شريكا. وقيل ينبني على الخلاف. هل الأخذ بالشفعة أخذ من المشتري أو من البائع؟ فإن كان من المشتري فيكون شريكا، وإن كان من البائع فهو شريك شريكه. وقيل مراده أن الشفيع إن كان له الأخذ قهرا فللبائع إذا كان شريكه أن يبيع له ذلك بطريق الاختيار بل أولى، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعا غير مقسوم) ذكر فيه حديث جابر في الشفعة أيضا وسيأتي في مكانه. ذكر هنا اختلاف الرواة في قوله " كل ما لم يقسم " أو " كل ما لم يقسم " فقال عبد الواحد بن زياد وهشام بن يوسف عن معمر " كل ما لم يقسم " وقال عبد الرزاق عن معمر " كل مال " وكذا قال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وطريق هشام وصلها المؤلف في " ترك الحيل " وطريق عبد الرزاق وصلها في الباب الذي قبله، وطريق عبد الرحمن بن إسحاق وصلها مسدد في مسنده عن بشر ابن المفضل عنه، ووقع عند السرخسي في رواية عبد الرزاق وفي رواية عبد الواحد في الموضعين " كل مال " وللباقين " كل ما " في رواية عبد الواحد و " كل مال " في رواية عبد الرزاق، وقد رواه إسحاق عن عبد الرزاق بلفظ " قضى بالشفعة في الأموال ما لم تقسم " وهو يرجح رواية غير السرخسي والله أعلم. قال الكرماني: الفرق بين هذه الثلاث يعني قوله " تابعه " و " قال " و " رواه " أن المتابعة أن يروي الراوي الآخر الحديث بعينه والرواية إنما تستعمل عند المذاكرة والقول أعم، وما ادعاه من الاتحاد في المتابعة مردود فإنها أعم من أن تكون باللفظ أو بالمعنى، وحصره الرواية في المذاكرة مردود أيضا فإن في هذا الكتاب ما عبر عنه بقوله " رواه فلان " ثم أسنده هو في موضع آخر بصيغة " حدثنا". وأما الذي هنا بخصوصه فعبد الرحمن بن إسحاق ليس على شرطه ولذلك حذفه مع كونه أخرج الحديث عن مسدد الذي وصله عن عبد الرحمن. *3* الشرح: قوله: (باب إذا اشترى شيئا لغبره بغبر إذنه فرضى) هذه الترجمة معقودة لبيع الفضولي، وقد مال البخاري فيها إلى الجواز، وأورد فيه حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين انحطت عليهم الصخرة في الغار وسيأتي شرحه في أواخر أحاديث الأنبياء، وموضع الترجمة منه قول أحدهم " إني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته فأبى، فعمدت إلى الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها " فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكنه لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضى، وطريق الاستدلال به ينبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا والجمهور على خلافه والخلاف فيه شهير. لكن يتقرر بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقه مساق المدح والثناء على فاعله وأقره على ذلك، ولو كان لا يجوز لبينه. فبهذا الطريق يصح الاستدلال به لا بمجرد كونه شرع من قبلنا، وفي اقتصار البخاري على الاستنباط لهذا الحكم بهذه الطريق دلالة على أن الذي أخرجه في فضل الخيل من حديث عروة البارقي في قصة بيعه الشاة لم يقصد به الاستدلال لهذا الحكم، وقد أجيب عن حديث الباب بأنه يحتمل أنه استأجره بفرق في الذمة، ولما عرض عليه الفرق فلم يقبضه استمر في ذمه المستأجر، لأن الذي في الذمة لا يتعين إلا بالقبض، فلما تصرف فيه المالك صح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره، ثم إنه تبرع بما اجتمع منه على الأجير برضا منه والله أعلم. قال ابن بطال: وفيه دليل على صحة قول ابن القاسم: إذا أودع رجل رجلا طعاما فباعه المودع بثمن فرضى المودع فله الخيار إن شاء اخذ الثمن الذي باعه به وإن شاء أخذ مثل طعامه. ومنع أشهب قال: لأنه طعام بطعام فيه خيار. واستدل به لأبي ثور في قوله: إن من غصب قمحا فزرعه أن كل ما أخرجت الأرض من القمح فهو لصاحب الحنطة. وسيأتي بقية الكلام على هذا الفرع وما يتعلق به مع الكلام على بقية فوائد حديث أهل الغار في أواخر أحاديث الأنبياء. وقوله في هذه الطريق " أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن نافع " فيه إدخال الواسطة بين ابن جريج ونافع، وابن جريج قد سمع الكثير من نافع. ففيه دلالة على قلة تدليس ابن جريج وروايته عن موسى من نوع رواية الأقران. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وقوله في المتن " الحلاب " بكسر المهملة وتخفيف اللام آخره موحدة: الإناء الذي يحلب فيه، أو المراد اللبن. وقوله "يتضاغون " بمعجمتين أي يتباكون من الضغاء وهو البكاء بصوت. وقوله "فرجة " بضم الفاء ويجوز الفتح، و " الفرق " تقدم في الزكاة و " الذرة " بضم المعجمة وتخفيف الراء معروف. *3* الشرح: قوله: (باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب) قال ابن بطال: معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين. واختلف العلماء في مبايعة من غالب ماله الحرام، وحجة من رخص فيه قوله صلى الله عليه وسلم للمشرك " أبيعا أم هبة "؟ وفيه جواز بيع الكافر وإثبات ملكه على ما في يده، وجواز قبول الهدية منه، وسيأتي حكم هدية المشركين في كتاب الهبة. قلت: وأورد المصنف فيه حديث الباب بإسناده هذا أتم سياقا منه، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. وقوله فيه " مشعان " بضم الميم وسكون المعجمة بعدها مهملة وآخره نون ثقيلة أي طويل شعث الشعر، وسيأتي تفسيره للمصنف في الهبة. وقوله "أبيعا أم عطية "؟ منصوب بفعل مضمر أي أتجعله ونحو ذلك، ويجوز الرفع أي أهذا، وقد تقدم قريبا في " باب بيع السلاح في الفتنة " ما يتعلق بمبايعة أهل الشرك. *3* وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ كَاتِبْ وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ وَسُبِيَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الشرح: قوله: (باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه) قال ابن بطال: غرض البخاري بهذه الترجمة إثبات ملك الحربي وجواز تصرفه في ملكه بالبيع والهبة والعتق وغيرها، إذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان عند مالكه من الكفار وأمره أن يكاتب، وقبل الخليل هبة الجبار وغير ذلك مما تضمنه حديث الباب. قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان) أي الفارسي (كاتب. وكان حرا فطلموه وباعوه) هذا طرف من حديث وصله أحمد والطبراني من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد عن سلمان قال " كنت رجلا فارسيا " فذكر الحديث بطوله وفيه " ثم مر بي نفر من كلب تجار فحملوني معهم، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي " الحديث وفيه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يا سلمان، قال فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة ودية " وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحهما من وجه آخر عن زيد بن صوحان عن سلمان نحوه، وأخرجه أبو أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث بريدة بمعناه. (تنبيه) : قوله " كان حرا فظلموه وباعوه " من كلام البخاري لخصه من قصته في الحديث الذي علقه، وظن الكرماني أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله لسلمان " كاتب يا سلمان " فقال: قوله وكان حرا حال من قال النبي لا من قوله كاتب، ثم قال: كيف أمره بالكتابة وهو حر؟ وأجيب بأنه أراد بالكتابة صورتها لا حقيقتها وكأنه أراد افد نفسك وتخلص من الظلم، كذا قال، وعلى تسليم أن قوله وكان حرا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعين منه حمل الكتابة على المجاز لاحتمال أن يكون أراد بقوله " وكان حرا " أي قبل أن يخرج من بلده فيقع في أسر الذين ظلموه وباعوه ويستفاد من هذا كله تقرير أحكام المشركين على ما كانوا عليه قبل الإسلام، وقد قال الطبري: إنما أقر اليهودي على تصرفه في سلمان بالبيع ونحوه لأنه لما ملكه لم يكن سلمان على هذه الشريعة وإنما كان قد تنصر، وحكم هذه الشريعة أن من غلب من الكفار على نفس غيره أو ماله ولم يكن المغلوب فيمن دخل في الإسلام أنه يدخل في ملك الغالب. قوله: (وسبي عمار وصهيب وبلال) أما قصة سبي عمار فما ظهر لي المراد منها، لأن عمارا كان عربيا عنسيا بالنون والمهملة ما وقع عليه سبي، وإنما سكن أبوه ياسر مكة وحالف بني مخزوم فزوجوه سمية وهي من مواليهم فولدت له عمارا، فيحتمل أن يكون المشركون عاملوا عمارا معاملة السبي لكون أمه من مواليهم داخلا في رقهم. وأما صهيب فذكر ابن سعد أن أباه من النمر بن قاسط وكان عاملا لكسرى فسبت الروم صهيبا لما غزت أهل فارس فابتاعه منهم عبد الله بن جدعان، وقيل بل هرب من الروم إلى مكة فحالف ابن جدعان، وستأتي الإشارة إلى قصته في الكلام على الحديث الثالث. وأما بلال فقال مسدد في مسنده " حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: كان بلال لأيتام أبي جهل، فعذبه، فبعث أبو بكر رجلا فقال: اشتر لي بلالا فأعتقه". وروى عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب قال " قال أبو بكر للعباس: اشتر لي بلالا فاشتراه فأعتقه أبو بكر " وفي المغازي لابن إسحاق، حدثني هشام بن عروة عن أبيه قال " مر أبو بكر بأمية بن خلف وهو يعذب بلالا فقال: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ قال: أنقذه أنت مما ترى، فأعطاه أبو بكر غلاما أجلد منه وأخذ بلالا فأعتقه " ويجمع بين القصتين بأن كلا من أمية وأبي جهل كان يعذب بلالا ولهما شوب فيه. قوله: (وقال الله تعالى وقال ابن المنير: مقصوده صحة ملك الحربي وملك المسلم عنه، والمخاطب في الآية المشركون، والتوبيخ الذي وقع لهم بالنسبة إلى ما عاملوا به أصنامهم من التعظيم ولم يعاملوا ربهم بذلك، وليس هذا من غرض هذا الباب. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَارَةَ فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ قَالَ أُخْتِي ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ الْأَعْرَجُ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّي وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الْكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ فَيُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا آجَرَ فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَتْ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً الشرح: حديث أبي هريرة في قصة إبراهيم عليه السلام وسارة مع الجبار، وفيه أنه أعطاها هاجر، ووقع هنا " آجر " بهمزة بدل الهاء، وقوله "كبت " بفتح الكاف والموحدة بعدها مثناة أي أخزاه وقيل رده خائبا وقيل أحزنه وقيل صرعه وقيل صرفه وقيل أذله، حكاها كلها ابن التين وقال: إنها متقاربة، وقيل أصل كبت كبد أي بلغ الهم كبده فأبدلت الدال مثناة. وقوله أخدم أي مكن من الخدمة، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في أحاديث الأنبياء، وموضع الترجمة منه قول الكافر " أعطوها هاجر " وقبول سارة منه وإمضاء إبراهيم عليه السلام ذلك، ففيه صحة هبة الكافر. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ فَقَالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ الشرح: حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وقد تقدم قريبا ويأتي الكلام عليه في الباب المحال عليه ثم، وموضع الترجمة منه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ملك زمعة للوليدة وإجراء أحكام الرق عليها. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصُهَيْبٍ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ فَقَالَ صُهَيْبٌ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا وَأَنِّي قُلْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ الشرح: قوله: (عن سعد) أي ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: (قال عبد الرحمن بن عوف لصهيب: اتق الله ولا تدع إلى غير أبيك) كان صهيب يقول إنه ابن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل ويسوق نسبا ينتهي إلى النمر بن قاسط وأن أمه من بني تميم، وكان لسانه أعجميا لأنه ربي بين الروم فغلب عليه لسانهم، وقد روى الحاكم من طريق محمد بن عمرو ابن علقمة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال " قال عمر لصهيب: ما وجدت عليك في الإسلام إلا ثلاثة أشياء: أكتنيت أبا يحيى، وأنك لا تمسك شيئا، وتدعي إلى النمر بن قاسط. فقال: أما الكنية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني، وأما النفقة فإن الله يقول فهذه طرق تقوي بعضها ببعض فلعله اتفقت له هذه المراجعة بينه وبين عمر مرة وبينه وبين عبد الرحمن بن عوف أخرى، ويدل عليه اختلاف السياق. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ أَوْ أَتَحَنَّتُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ قَالَ حَكِيمٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ الشرح: حديث حكيم بن حزام أنه قال " يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها " الحديث، وقد تقدم الكلام عليه في الزكاة، وموضع الترجمة منه ما تضمنه الحديث من وقوع الصدقة والعتاقة من المشرك، فإنه يتضمن صحة ملك المشرك، إذ صحة العتق متوقفة على صحة الملك، وسيأتي الكلام على قوله " أتحنث " هل هو بالمثلثة أو المثناة في كتاب الأدب، وذكر الكرماني أنه روى هنا أتحبب بموحدتين وكان الأولى أن ينسبها لقائلها. *3* الشرح: قوله: (باب جلود الميتة قبل أن تدبغ) أي هل يصح بيعها أم لا؟ أورد فيه حديث ابن عباس في شاة ميمونة، وكأنه أخذ جواز البيع من جواز الاستمتاع لأن كل ما ينتفع به يصح بيعه ومالا فلا، وبهذا يحاب عن اعتراض الإسماعيلي بأنه ليس في الخير الذي أورده تعرض للبيع، والانتفاع بجلود الميتة مطلقا قبل الدباغ وبعده مشهور من مذهب الزهري، وكأنه اختيار البخاري، وحجته مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم "إنما حرم أكلها " فإنه يدل على أن كل ما عدا أكلها مباح، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. وَقَالَ جَابِرٌ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْخِنْزِيرِ الشرح: قوله: (باب قتل الخنزير) أي هل يشرع كما شرع تحريم أكله؟ ووجه دخوله في أبواب البيع الإشارة إلى أن ما أمر بقتله لا يجوز بيعه، قال ابن التين: شذ بعض الشافعية فقال لا يقتال الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة. قال: والجمهور على جواز قتله مطلقا. والخنزير بوزن غربيب ونونه أصلية وقيل زائدة وهو مختار الجوهري. قوله: (وقال جابر حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الخنزير) هذا طرف من حديث وصله المؤلف كما سيأتي بعد تسعة أبواب، ثم ذكر المصنف في الباب حديث أبي هريرة في نزول عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في أحاديث الأنبياء، وموضع الترجمة منه قوله " ويقتل الخنزير " أي يأمر بإعدامه مبالغة في تحريم أكله، وفيه توبيخ عظيم للنصارى الذين يدعون أنهم على طريقة عيسى ثم يستحلون أكل الخنزير ويبالغون في محبته.
|